(نحن وعلماؤنا)
بقلم الكاتب أ.مجاهد ديرانـيّـة 15/9/2012
نشرت قبل أيام كلمة صغيرة على صفحتي، لم أنشرها مقالة عامة ولا قدّرت أن يقرأها غير مئات من الذين يتابعون الصفحة، فشرّقَت وغرّبت وقرأها آلاف وعلق عليها جمع غفير. وتابعتُ الزوبعةَ التي أثارَتها فظهر لي أن الأمر يحتاج إلى تعليق موسّع، فقد وجدت أن عامة الناس يقفون من العلماء ثل
اثة مواقف، أوسطها معتدل صحيح، وعلى طرفيه نقيضان لا يصحّ أي منهما ولا يجوز بقاؤه بلا علاج.
الأوسطون -وأرجو أن يكونوا الفئة الأكبر- هم الذين يتلقَّون علماءهم بالقَبول فيقدّرون علم العالم وإخلاص المخلص منهم، فإذا أصاب تابعوه وإذا أخطأ نصحوه وقوّموه، لا يزهّدهم خطؤه في علمه إن كان عالماً حقاً، ولا ينفضّون عنه ولا يتركونه جملةً ما دام مخلصاً ولو جانبَ الصواب أو أغرب في الاجتهاد.
على إحدى الجهتين من هذا الفريق الأوسط نجد جماعة من المتابعين والمريدين الذين لا يجرؤون على التساؤل عن صواب رأي العالم مهما تلبّسَته الغرابة، ولا يُجيزون لأنفسهم الاعتراض عليه أو انتقاد رأي يراه، بل يسلّمون عقولهم ويستسلمون لكل ما يسمعون، فإذا أخطأ (ومَن مِن الناس لا يخطئ؟) تابعوه على الخطأ كما يتابعونه على الصواب، ولو جاءهم من ينصحهم ردّوه وخاصموه لأن الانتصار لشيخهم هو الفريضة وليس الانتصار للحق والدين، ولأنهم أصلاً لا يحبون التفكير ولا يجيزون لأنفسهم مناقشة ما يسمعون.
الجهة المقابلة فيها فريق لا يُقيل للعالم عَثرة ولا يُجيز له الخطأ، فإذا زلّ في مسألة أو احتار في موقف نبذوه وتركوه وقاطعوا علمه وكتبه وأحاديثه جميعاً، كأنه لم يحسن قط وكأنه لا فضل له في دنيا ولا دين.
* * *
لقد انتصفَت سنةُ الثورة الثانية ومَرّ عليها من الأهوال إلى اليوم ما يكاد الليل يشيب من فظاعته فينقلب سوادُه البهيم بياضاً نقياً، فلم يبقَ عذرٌ لقاعد ولم يبق عذر لساكت. وإذا كان لكل واحد من أبناء الوطن عمل وواجب مَنوط به فإن أثقل تلك الأعمال هو ما نيط بالعلماء لأنهم قادة الأمة وورثة الأنبياء، فإذا لم يقودوها في هذه الليالي الحالكات فمن يقودها؟ وإذا لم يرسموا الطريق لها فمن يرسمه لها؟ ولا ريب أن العالم يَثْقل حمله ويكبر واجبه كلما ارتفع ذكره وكثر متابعوه. فمن أجل ذلك طالبَت الأمة علماءها بتصدّر الثورة وألحّت في المطالبة، ومن أجل ذلك نصح الناصحون وانتقد المنتقدون. وإذا لم يكن هذا القلم واحداً من الناقدين والناصحين والمطالبين فما قيمته وبأي حجة يَرِدُ صاحبُه على الله؟
قد يقول قائل: هذا كله حسن مفهوم، ولكن لماذا تركت البوطي ونصحت النابلسي، والأوّل أَولى بالنقد والتذكير؟ والجواب سهل قريب، فإني تركت البوطي فلم أتعرض له بحرف لأنني رأيته أهونَ على الله من جناح بعوضة، ولقد فضحه الله وهتك ستره فلا أباليه ولا يباليه غيري من الناصحين. وأما النابلسي فإني أحبه في الله وأقدّر فضله، وقد أقررت بذلك في تعليقي الصغير على كلمته (التي انتقدني بعض محبّيه بسببها) فوصفته بأنه “عالم احترمناه وأحببناه”، وهو غني عن شهادتي بما ألقى الله له في القلوب من قَبول.
مثل الشيخ راتب لا يضره أن يعاتبه مثلي ولا يُغضبه أن يسمع النصيحةَ من تلامذته، فإن الكبير لا تصغّره نصيحة صادقة ولا يؤذيه عتابٌ مؤدّب، بل هو يزداد رفعةً بقبول النقد وسماع النصيحة. لذلك أقول للذين انتدبوا أنفسهم للدفاع عنه: وفّروا على أنفسكم العناء، فإن للشيخ لساناً أمضى من ألسنتكم وقلماً أبلغ من أقلامكم. لو أراد الردّ لرد بنفسه، ولكنه علم أني محب صادق ناصح، لست عدواً ولا مبغضاً ولا منكراً لعلمه وفضله، وأني لا أريد إلا الخير له ولشعب سوريا ولأمة المسلمين.
* * *
إن الذين يهبّون مثل العاصفة يدافعون عن شيخهم -إذا تعرض للنقد شيخُهم- يذكّرونني بأبواق السلاطين، وقد عرفنا منهم في سوريا الكثير ونعرف غيرهم في كل بلد من بلداننا الميتة المتخلفة في ركب الدنيا وركب الدين. ما إن يوجّه أحد الصادقين نصيحة أو انتقاداً لطيفاً مؤدباً إلى السلطان حتى يثور المنافقون ثَوَران البركان ويشحنوا الصحف والمجلات والمواقع والمنتديات والفضائيات بهذيان مملّ سخيف، ظاهرُه الدفاع المُنْصف وحقيقته النفاق والكذب والتدليس، وهم يساهمون -بعملهم هذا- بالسهم الأكبر في صنع المستبدين والطواغيت ويَحملون وزرهم وإثمهم إلى يوم الحساب. هذا الذي يصنعه “أبواق” السلاطين يصنع مثلَه “أبواق” المشايخ والعلماء من حيث لا يشعرون.
الشائع أن الاتّباع الأعمى وتعصب التلميذ لشيخه آفة عامة في أوساط المتصوفين، وهذا صحيح، ولكنها ليست حكراً عليهم دون غيرهم، فقد لاحظت أنها موجودة حيثما وُجد شيخ له تلامذة ومريدون، لا يَسْلم منها إلا القلّة من العقلاء والمنصفين الذين يحكمون على الرجال بالحق لا يحكمون على الحق بالرجال، والذين لا تسلب عقولَهم ولا تعمي بصائرهم شهرةُ المشتهرين من العلماء والدعاة. لا تلوموا الصوفيين وحدهم، حتى السلفيون يتعلقون بمشايخهم تعلقاً مبالَغاً فيه ويتابعونهم بلا تفكير ولا اعتراض، وربما ذُكر اسم العالم من علمائهم فخشعوا له وخضعوا كما يصنع طالب العلم مع أكابر المجتهدين، وإنما هو ناقل لم يجتهد قط ولم يزد على حفظ المسائل وروايتها ولا يعدو أن يكون واحداً من علماء الرواية الذين يملؤون الدنيا، ثم إذا ما خالفهم عالم كبير ومجتهد أصولي خبير وجاء بفتوى لم يألفوها فإنهم يردّونه أو يبدّعونه وينكرون عليه أسوأ نكير!
لقد آن للأمة أن تتعافى من هذه الآفة وأن يتابع عامتها علماءهم متابعة عاقلة مبصرة، فإذا أخطأ العالم قوّموه، وإذا قصّر انتقدوه، وإذا ضيّق واسعاً أو عسّر يسيراً ناقشوه وحاججوه، وإذا باع نفسه للسلطان نصحوه ثم هجروه وقاطعوه… على أنه لا ينبغي للنصيحة والانتقاد أن يخرجا عن حدود الأدب ولا أن ينقلبا إلى هجاء وتلاوم. وأهم من ذلك كله أن لا يتسبب الخطأ يخطئه العالم (ولا الاثنان ولا العدد من الأخطاء) في رفضه ونبذه جملة واحدة، بشرط أن يكون العالم عالماً حقاً وأن يكون مخلصاً صادقاً، فإذا كان متعالماً وليس له من العلم شيء لم يستحقّ الاحترام ووجب كشفه لئلا يُفسد على الناس دينَهم، وإذا كان خبيثاً سيّئ النية ممن يشترون الدنيا بالدين ويدلّسون على العامة ويتبعون السلاطين فإن فضحه من أوجب الواجبات ومن حق الجاهلين على العالِمين.
* * *
يا أيها الكرام: إن الردّ على العالم -بأدب وعلم- من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن أعظم مزايا أهل السنّة والجماعة، فلا تحرمونا هذه المزيّة ولا تجعلونا مثل الشيعة.
هل تعلمون ما الفرق بيننا وبين الشيعة؟ أعرف أن بيننا وبينهم من الفروق كما بيننا وبين اليهود، وإنما قصدت موضوعنا الذي نبحثه هنا. قدّس الشيعة علماءهم وسلّموهم عقولهم فلعبوا بها كما يلعب لاعبو الكرة بالكرة في الملعب، فضلّوا وأضلوا ولم يجدوا من يقول لهم: من أين لكم هذا؟ أما المسلمون من أهل السنّة فقد أراد الله أن يحفظ لهم دينهم فعلّمهم أن لا يقدّسوا أحداً من المخلوقات وأن لا يمنحوا العصمة أحداً من الخلق، فلا يقدسون إلا الله ولا معصوم عندهم إلا رسول الله صلى وسلّم عليه الله، فإذا أخطأ العالم فيهم ردّوا عليه خطأه وقوّموه وسدّدوه، وبذلك تتحقق لأمة محمد -عليه الصلاة والسلام- واحدةٌ من خصائصها العجيبة: إنها تنفي عن نفسها الخَبَث وتقي دينها من التحريف بعملية رقابية جماعية تشترك فيها جيوش من العاملين المخلصين، من العلماء ومن العامة على السواء.
ولعل هذا هو معنى قوله تبارك وتعالى في كتابه الحكيم: {والمؤمنون والمؤمنات بعضُهم أولياءُ بعض، يأمرون بالمعروف وينهوَن عن المنكر}، فذكر الجنسين (المؤمنين والمؤمنات) وأطلق الوصف ولم يَقْصره على العلماء دون العامّة. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة” (وهو حديث حسن بمجموع الطرق كما قال الألباني) وقوله: “يحمل هذا العلمَ من كل خَلَف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين” (حديث مرسل رُوي موصولاً من طريق جماعة من الصحابة، وصحّح الحافظ العلائي بعضَ طرقه).
* * *
الخلاصة: ما يجمعنا بعلمائنا هو العلمُ والإخلاص من طرفهم والمحبةُ والتقدير والنصيحة من طرفنا، فلا نبالغ في تبجيلهم وتعظيمهم لدرجة التنزيه والتقديس (ولا هم يقبلون منا ذلك)، ولا نقابل خطأهم وتقصيرهم بالذم البذيء والهجاء القاسي والمقاطعة الكاملة، بل بالتذكير والنصيحة اللطيفة المؤدبة، إلا أن يكون الواحد منهم متعالماً بلا علم، أو يكون علمه للدنيا لا للآخرة وللسلطان أو للمال أو للجاه لا لله. أما ما نريده من علمائنا وما نظن أنه الواجب عليهم والعمل الذي يرفعهم في الدنيا والآخرة فسوف أفصّله في مقالة آتية إن شاء الله
الأوسطون -وأرجو أن يكونوا الفئة الأكبر- هم الذين يتلقَّون علماءهم بالقَبول فيقدّرون علم العالم وإخلاص المخلص منهم، فإذا أصاب تابعوه وإذا أخطأ نصحوه وقوّموه، لا يزهّدهم خطؤه في علمه إن كان عالماً حقاً، ولا ينفضّون عنه ولا يتركونه جملةً ما دام مخلصاً ولو جانبَ الصواب أو أغرب في الاجتهاد.
على إحدى الجهتين من هذا الفريق الأوسط نجد جماعة من المتابعين والمريدين الذين لا يجرؤون على التساؤل عن صواب رأي العالم مهما تلبّسَته الغرابة، ولا يُجيزون لأنفسهم الاعتراض عليه أو انتقاد رأي يراه، بل يسلّمون عقولهم ويستسلمون لكل ما يسمعون، فإذا أخطأ (ومَن مِن الناس لا يخطئ؟) تابعوه على الخطأ كما يتابعونه على الصواب، ولو جاءهم من ينصحهم ردّوه وخاصموه لأن الانتصار لشيخهم هو الفريضة وليس الانتصار للحق والدين، ولأنهم أصلاً لا يحبون التفكير ولا يجيزون لأنفسهم مناقشة ما يسمعون.
الجهة المقابلة فيها فريق لا يُقيل للعالم عَثرة ولا يُجيز له الخطأ، فإذا زلّ في مسألة أو احتار في موقف نبذوه وتركوه وقاطعوا علمه وكتبه وأحاديثه جميعاً، كأنه لم يحسن قط وكأنه لا فضل له في دنيا ولا دين.
* * *
لقد انتصفَت سنةُ الثورة الثانية ومَرّ عليها من الأهوال إلى اليوم ما يكاد الليل يشيب من فظاعته فينقلب سوادُه البهيم بياضاً نقياً، فلم يبقَ عذرٌ لقاعد ولم يبق عذر لساكت. وإذا كان لكل واحد من أبناء الوطن عمل وواجب مَنوط به فإن أثقل تلك الأعمال هو ما نيط بالعلماء لأنهم قادة الأمة وورثة الأنبياء، فإذا لم يقودوها في هذه الليالي الحالكات فمن يقودها؟ وإذا لم يرسموا الطريق لها فمن يرسمه لها؟ ولا ريب أن العالم يَثْقل حمله ويكبر واجبه كلما ارتفع ذكره وكثر متابعوه. فمن أجل ذلك طالبَت الأمة علماءها بتصدّر الثورة وألحّت في المطالبة، ومن أجل ذلك نصح الناصحون وانتقد المنتقدون. وإذا لم يكن هذا القلم واحداً من الناقدين والناصحين والمطالبين فما قيمته وبأي حجة يَرِدُ صاحبُه على الله؟
قد يقول قائل: هذا كله حسن مفهوم، ولكن لماذا تركت البوطي ونصحت النابلسي، والأوّل أَولى بالنقد والتذكير؟ والجواب سهل قريب، فإني تركت البوطي فلم أتعرض له بحرف لأنني رأيته أهونَ على الله من جناح بعوضة، ولقد فضحه الله وهتك ستره فلا أباليه ولا يباليه غيري من الناصحين. وأما النابلسي فإني أحبه في الله وأقدّر فضله، وقد أقررت بذلك في تعليقي الصغير على كلمته (التي انتقدني بعض محبّيه بسببها) فوصفته بأنه “عالم احترمناه وأحببناه”، وهو غني عن شهادتي بما ألقى الله له في القلوب من قَبول.
مثل الشيخ راتب لا يضره أن يعاتبه مثلي ولا يُغضبه أن يسمع النصيحةَ من تلامذته، فإن الكبير لا تصغّره نصيحة صادقة ولا يؤذيه عتابٌ مؤدّب، بل هو يزداد رفعةً بقبول النقد وسماع النصيحة. لذلك أقول للذين انتدبوا أنفسهم للدفاع عنه: وفّروا على أنفسكم العناء، فإن للشيخ لساناً أمضى من ألسنتكم وقلماً أبلغ من أقلامكم. لو أراد الردّ لرد بنفسه، ولكنه علم أني محب صادق ناصح، لست عدواً ولا مبغضاً ولا منكراً لعلمه وفضله، وأني لا أريد إلا الخير له ولشعب سوريا ولأمة المسلمين.
* * *
إن الذين يهبّون مثل العاصفة يدافعون عن شيخهم -إذا تعرض للنقد شيخُهم- يذكّرونني بأبواق السلاطين، وقد عرفنا منهم في سوريا الكثير ونعرف غيرهم في كل بلد من بلداننا الميتة المتخلفة في ركب الدنيا وركب الدين. ما إن يوجّه أحد الصادقين نصيحة أو انتقاداً لطيفاً مؤدباً إلى السلطان حتى يثور المنافقون ثَوَران البركان ويشحنوا الصحف والمجلات والمواقع والمنتديات والفضائيات بهذيان مملّ سخيف، ظاهرُه الدفاع المُنْصف وحقيقته النفاق والكذب والتدليس، وهم يساهمون -بعملهم هذا- بالسهم الأكبر في صنع المستبدين والطواغيت ويَحملون وزرهم وإثمهم إلى يوم الحساب. هذا الذي يصنعه “أبواق” السلاطين يصنع مثلَه “أبواق” المشايخ والعلماء من حيث لا يشعرون.
الشائع أن الاتّباع الأعمى وتعصب التلميذ لشيخه آفة عامة في أوساط المتصوفين، وهذا صحيح، ولكنها ليست حكراً عليهم دون غيرهم، فقد لاحظت أنها موجودة حيثما وُجد شيخ له تلامذة ومريدون، لا يَسْلم منها إلا القلّة من العقلاء والمنصفين الذين يحكمون على الرجال بالحق لا يحكمون على الحق بالرجال، والذين لا تسلب عقولَهم ولا تعمي بصائرهم شهرةُ المشتهرين من العلماء والدعاة. لا تلوموا الصوفيين وحدهم، حتى السلفيون يتعلقون بمشايخهم تعلقاً مبالَغاً فيه ويتابعونهم بلا تفكير ولا اعتراض، وربما ذُكر اسم العالم من علمائهم فخشعوا له وخضعوا كما يصنع طالب العلم مع أكابر المجتهدين، وإنما هو ناقل لم يجتهد قط ولم يزد على حفظ المسائل وروايتها ولا يعدو أن يكون واحداً من علماء الرواية الذين يملؤون الدنيا، ثم إذا ما خالفهم عالم كبير ومجتهد أصولي خبير وجاء بفتوى لم يألفوها فإنهم يردّونه أو يبدّعونه وينكرون عليه أسوأ نكير!
لقد آن للأمة أن تتعافى من هذه الآفة وأن يتابع عامتها علماءهم متابعة عاقلة مبصرة، فإذا أخطأ العالم قوّموه، وإذا قصّر انتقدوه، وإذا ضيّق واسعاً أو عسّر يسيراً ناقشوه وحاججوه، وإذا باع نفسه للسلطان نصحوه ثم هجروه وقاطعوه… على أنه لا ينبغي للنصيحة والانتقاد أن يخرجا عن حدود الأدب ولا أن ينقلبا إلى هجاء وتلاوم. وأهم من ذلك كله أن لا يتسبب الخطأ يخطئه العالم (ولا الاثنان ولا العدد من الأخطاء) في رفضه ونبذه جملة واحدة، بشرط أن يكون العالم عالماً حقاً وأن يكون مخلصاً صادقاً، فإذا كان متعالماً وليس له من العلم شيء لم يستحقّ الاحترام ووجب كشفه لئلا يُفسد على الناس دينَهم، وإذا كان خبيثاً سيّئ النية ممن يشترون الدنيا بالدين ويدلّسون على العامة ويتبعون السلاطين فإن فضحه من أوجب الواجبات ومن حق الجاهلين على العالِمين.
* * *
يا أيها الكرام: إن الردّ على العالم -بأدب وعلم- من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن أعظم مزايا أهل السنّة والجماعة، فلا تحرمونا هذه المزيّة ولا تجعلونا مثل الشيعة.
هل تعلمون ما الفرق بيننا وبين الشيعة؟ أعرف أن بيننا وبينهم من الفروق كما بيننا وبين اليهود، وإنما قصدت موضوعنا الذي نبحثه هنا. قدّس الشيعة علماءهم وسلّموهم عقولهم فلعبوا بها كما يلعب لاعبو الكرة بالكرة في الملعب، فضلّوا وأضلوا ولم يجدوا من يقول لهم: من أين لكم هذا؟ أما المسلمون من أهل السنّة فقد أراد الله أن يحفظ لهم دينهم فعلّمهم أن لا يقدّسوا أحداً من المخلوقات وأن لا يمنحوا العصمة أحداً من الخلق، فلا يقدسون إلا الله ولا معصوم عندهم إلا رسول الله صلى وسلّم عليه الله، فإذا أخطأ العالم فيهم ردّوا عليه خطأه وقوّموه وسدّدوه، وبذلك تتحقق لأمة محمد -عليه الصلاة والسلام- واحدةٌ من خصائصها العجيبة: إنها تنفي عن نفسها الخَبَث وتقي دينها من التحريف بعملية رقابية جماعية تشترك فيها جيوش من العاملين المخلصين، من العلماء ومن العامة على السواء.
ولعل هذا هو معنى قوله تبارك وتعالى في كتابه الحكيم: {والمؤمنون والمؤمنات بعضُهم أولياءُ بعض، يأمرون بالمعروف وينهوَن عن المنكر}، فذكر الجنسين (المؤمنين والمؤمنات) وأطلق الوصف ولم يَقْصره على العلماء دون العامّة. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة” (وهو حديث حسن بمجموع الطرق كما قال الألباني) وقوله: “يحمل هذا العلمَ من كل خَلَف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين” (حديث مرسل رُوي موصولاً من طريق جماعة من الصحابة، وصحّح الحافظ العلائي بعضَ طرقه).
* * *
الخلاصة: ما يجمعنا بعلمائنا هو العلمُ والإخلاص من طرفهم والمحبةُ والتقدير والنصيحة من طرفنا، فلا نبالغ في تبجيلهم وتعظيمهم لدرجة التنزيه والتقديس (ولا هم يقبلون منا ذلك)، ولا نقابل خطأهم وتقصيرهم بالذم البذيء والهجاء القاسي والمقاطعة الكاملة، بل بالتذكير والنصيحة اللطيفة المؤدبة، إلا أن يكون الواحد منهم متعالماً بلا علم، أو يكون علمه للدنيا لا للآخرة وللسلطان أو للمال أو للجاه لا لله. أما ما نريده من علمائنا وما نظن أنه الواجب عليهم والعمل الذي يرفعهم في الدنيا والآخرة فسوف أفصّله في مقالة آتية إن شاء الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
للتعليق